سرير البنفسج
وسط غرفة نومه الصغيرة ، على سطح بناية ذات الثلاثة طوابق في حي سكني شعبي مكتظ بالفقراء في زاوية منسية من المدينة كانت ، أصوات الباعة المتجولين تتكرر بالمناداة والترويج لما يحملونه من بضائع ، أواني بلاستيكية ملونة ، للمقايضة بما تفيض البيوت به من فضلات الخبز اليابس والعلب الزجاجية الفارغة والملابس القديمة ، أكياس كبيرة على ظهورهم ، صغار بوجوه كهلة متعبه أحرقتها شمس بغداد اللاهبة ، تنهش قلبها بأظافرها وتلعق دماء أيامها المجدبة ، وحيدة ،عارية جاءت توقع صفقة عمرها ، تبعثر أوراق أٍستسلامها وتنثرها ثم تلملمها من جديد ، تعد نبضات بوحها لرجل كل مافيه يستفز أنوثتها للابحار معه في قارب مطاطي من غيرسترة نجاة ، مهاجرة سرية الى عوالم سحرية عبربحاره المتوحشة بالامواج العاتية.
لفها سكون المكان ، تلبستها الوحشة ، التقطت قطع ثيابها المتناثرة ، فوق السرير ، حين راعها شحوبها ونظرة الهلع في عينيها منعكسة على المرآة المعلقة على الجدار ببرود تتفرس فيها تمط شفتيها تسخر من تلك الندوب التي طرزت جسدها المتوقد بالاشتهاء ، بعطش أنثى في الثلاثين ، يفتك بروحها وقلبها لضمة رجل طالما أرتوت من عينيه حبا، سافرت في واحة محبته الدافقة بالحنين ، تهيم به تكتوي بجمرات أشتياقه وترتمي على رمل شواطئه تلتحف بابتسامة من شفتيه تدخلها طمأنينة مثل الصلاة ، تبتعد ترصدها نظرات المرآة المبتسمة في خبث ، تديرظهرها تشبك يديها الاثنتين تخفي ندبة أحتلت نصف صدرها جرح عميق مرعليه مشرط جراح بارع أستأصل توأم أنوثتها القى به في حاوية معدنية باردة ، وفات أن تسأله عن مصير نهدها المسكين الذي تتحسس مكانه الخالي في كل لحظة كأنها لازالت في حلم لم تفق منه بعد تحت هلوسات التخدير ، تراقبها المرايا من كل الجهات على جدران الغرفة حتى السرير غدا مراة ترى أنعكاس صورة نهدها عليه ، ترتدي قميصها الذي تختفي أزراره كما في أحلامها تسير وسط الشوارع مشرعة الصدر ، تلملم أطرافه تداعبه الريح يبدو نهدها الواحد المكتنز أنوثة ، يئن بوجع الاغنيات الحزينة ، تهزمها القهقهات تبحث عن باب الغرفة لا تراه أنضم الى جيش المرايا الكبيرة المضيئة ، عصية الاختراق ،معلنة الحرب عليها، من غير سلاح تقاتل برفرفة قلبها المتوهج بالحب والاشتعالات ، حبيسة في غرفته تطاردها المرايا ، زمن مر على قصة حبهما.
هربت كثيرا لاذت بحجج واهية حين قدم قلبه ، رغم كوابيس سنواتها الثلاثين أجابته أن الوقت لم يحن بعد وتدرك جيدا بوجع ما تعني الثلاثين في مجتمعها الذي يحاصرها بالنظرات والاسئلة ، حسرة أمها المريضة التي تنوء بها أينما حلت ، وحزن والدها يملا أرجاء البيت الذي يتنفس به من خلال كرسيه المتحرك منذ أعوام ، رفضت رجالا كثيرين قبل أن ينسحبوا من حياتها حين يهمس لهم أحد الناصحين ، تذرعت بعجز والديها ووحدتهما ، بعد أن تزوج أخوتها ، عاهدها على رعايتهما وهو الذي يحن لدفء العائلة منذ أن فتح عينيه يتيما ، أحبها بعمق ، غمرها بالاهتمام متلهفا الى حديثها مستعجلا لحظات لقاؤهما.
منذ اليوم الاول لمجيئها الى المؤسسة التي يعمل فيها ، أربع سنوات قاسمته غرفة واحدة ، أحبته حلما ورديا شفافا مثل أوراقه التي طرز عليها أحلى قصائد الحب بالظلال وفتوحاتها ، تريد أن تكون له أمرأة غير منقوصة الانوثة ، تهاوت مقاومتها أمام قوة أصراره ،ترددها كان مثار حديث الزميلات اللائي يحسدنها عليه لدماثة أخلاقه ووسامته ونجاحه في عمله ، حملت قلبها عصفورا يرتعد بين ضلوعها ، خذلها و أنعقد لسانها عجزت أن تبوح بما تحت ثيابها، كتبت له سطرا واحدا على ورقة وردية شفافة ، فهم ، تواعدا لتلقي بين يديه هما دفنته تحت ثيابها ، لكنه تركها صحبة المرايا تلملم شتات أنوثتها ، نقر على الباب ، تسمرت حين طوقها بذراعيه وطاف بها ، بين المروج والغيمات والامواج رقصا تحت حبات المطر ، عبر المطارات والمحطات في مدن العشق المترعة بالحب والدفء والاطفال ودهشة الحياة على سرير من بنفسج .
فاتن الجابري
التعليقات
|
د.هناء القاضي الاديبة المبدعة اسعدني مرورك تحية لروحك الجميلة دمت بخير مودتي وتقديري |
|
الاسم: |
دهناء القاضي |
التاريخ: |
2010-03-18 22:56:05 |
|
نص جميل وممتع للقاريء ...ويشد فعلا للمتابعة .مودتي |
|
|
الزميل الجميل اسماعيل الصياح
غمرتني بالفرح
كلماتك العذبة زميلي شكرا لمرورك
دمت بود وخير مودتي وتقديري
|
|
|
الصديقة العزيزة
والقاصة الجميلة
بان ضياء حبيب الخيالي
شكرا لمشاعرك الحلوة وكلماتك الدافئة تسعدني أطلالتك البهية
دمت بخير وعافية
محبتي واعتزازي |
|
|
الاستاذة القاصة الرائعة فاتن الجابري
حين اركن الى ماتكتبين واتخيل حجم الابداع اهرب احيانا دون ان اكتب شيء!!
مذهلة وربي
تقديري |
|
الاسم: |
بان ضياء حبيب الخيالي |
التاريخ: |
2010-03-18 18:44:31 |
|
الصديقة المبدعة فاتن الجابري
تكتبين بطريقة احبها جدا ، باقة ورد لك واخرى لشخوصك العذبة ، قرأتها في موقعين وكل مرة احبها اكثر محبتي
|
|
|
الزميلة الراقية العزيزة زينب بابان
يسعدني مرورك
شكرا لتواصلك دمت ايتها الجميلة محبتي وتقديري |
|
|
الزميل والصديق الاديب وجدان عبد العزيز
شكرا ايها الصديق العزيز
كلماتك اسعدتني دمت بخير وعافية مودتي واعتزازي |
|
|
المبدعة فاتن الجابوي ========================= نص ابداعي اخر تتحفينا به دمتي بخير وسلام وننتظر جديدك دوما محبتي واعتزازي |
|
|
الاخ والصديق القاص
كاظم الشويلي
وانا سعدت بمرورك الذي زاد متصفحي القأ دمت بخير وعافية مودتي واحترامي |
|
|
القاصة المبدعة فاتن الجابري انها حالات تجلي انساني بين البوح والكتمان بين الحقيقة المرة وبين الاختفاء ، انفعالات رائعة جدا نقلتها القاصة بصورة مبدعة وتركتنا بين الحلم والحقيقة تقديري |
|
|
المبدعة فاتن
سررت بمطالعتي هذا النص
احترامي وتقديري |
|
|
الزميل العزيز
الاخ قصي عطية سعدت بكلماتك الرائعة
شكرا لمرورك الجميل
دمت بود وخير
مودتي وتقديري
|
|
|
الزميل الروائي سلام نوري سلمت ايها الزميل
الرائع ودمت بخير
مودتي وتقديري |
|
الاسم: |
قصي عطية |
التاريخ: |
2010-03-18 05:19:58 |
|
العزيزة (فاتن الجابري): نص في غاية الروعة، فيه الشيء الكثير من الشفافية والعذوبة والعمق ... حالة إنسانية تنقلنا في تفاصيلها بلغة سردية مطواعة، جميل ما خطته يدك أيتها المبدعة تحيتي وتقديري
|
|
الاسم: |
سلام نوري |
التاريخ: |
2010-03-18 03:01:05 |
|
رائعة كما عودتينا ايتها المبدعة الطيبة سلاما لروعتك زميلتي ام منتظر دمت |
|