العشاء الأخير للشهيد ناصر عواد (ابو سحر)
التعقيدات وصعوبة الحياة كانت سمة التكلفوالتعقيد الشديد لحياة الفقراء، ولا يمكن التغلب عليه إلا بالسعي والخوض عكسالتيار، وقتل الرغبات والأمنيات، وكل ذلك ينفقه الإنسان من حساب عمره وضميرهوعقله، وثمنهُ باهض ليس باليسير تعويضه إن صدمته الأيام وضاع وضيع إنسانيته التي يسعى لها إلى الخير والعمل بشرف،ويصون الكرامة. والنظرة التي تجعل النضال مرادفاً للعمل اليومي؛ هي نظرة صائبةولكنها عسيرة جداً، من خلال النضال والسعي إلى محاصرة الفقر وتحرير الإنسان منمخالبه بمختلف الطرق والأشكال لكسب العيش وكلاهما يحتم عليه الابتعاد عن العواطفوالمحركات بمشاعر ومؤثرات فطرية واستخدام الخبرة والثقافة والعقل.
بهذا الحديث كان النقاش مع الشهيد ناصر عوادعام 1976م في مقهى (ابو تريجي) في مدينة الديوانية، مع حضور الأصدقاء جواد الروازقوعلي صبر وهادي شاكر (ابو دية)، ومن خلال الحوار صدفة يمر كيطان ساجد (ابو عمش) بشاربهالكث ليكمل النقاش والحوار، تلك الأيام لا انساها وأنا بعمر الشباب والاندفاع فيالعمل الحزبي، والبحث عن المصادر الثقافية والأدبية والماركسية، فالإنسان كمايحتاج الى الغذاء لكي يحافظ على استمرار حياته ويحافظ على تطوره الذهني والجسدي، كذلكالعقل يحتاج إلى العناية ويحتاج إلى التغذية وإلى المراعاة والاهتمام، لذلك فأنالقراءة تعتبر جزءاً اساسياً لغذاء العقل، وهي التي تؤدي إلى تطوير الإنسان وتفتحأمامه آفاقاً جديدة.
وبعد مرور الأعوام والاهتمامبالدراسة الجامعية كنت اسأل عن الأصدقاء عن ناصر عواد، فقد انقطع الاتصال بعدانفراط التحالف الوطني بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث الحاكم عام 1978م،وبعد الهجرة خارج العراق عام 2001م والالتقاء صدفة بزميلة الدراسة نصيرة عواد فيالعاصمة كوبنهاكن والسؤال عن ناصر عواد، فكان الخبر قد نزل كالصاعقة عليَّ بسماع استشهادهفي احداث بشت ئآشان مع أخيه اقبال.
وقبل أيام حصلت على مذكراتالنصير ونقيب الفنانين السابق صباح المندلاوي (تعال معي إلى قنديل) وهو يوثقالساعات الأخير لحياة الشهيد ناصر عواد (ابو سحر)، كان رفيقه في الحركة الأنصاريةوألتقاه لحظات هجوم عناصر الاتحاد الوطني الكردستاني على منطقة بشت ئآشان بقيادة انوشيروانمصطفى.
وبشت ئآشان قرية معناها (ماوراء الطواحين) تقع قرب سلسلة جبال قنديل في كردستان العراق، واتخذها الحزبالشيوعي العراقي مقراً للإدارة والإذاعة الناطقة بـ(صوت الشعب العراقي)، والإذاعةكانت مهداة للحزب من قبل الجيش السوفياتي (سابقاً)، ونقلت عبر سوريا وتركيا وإيرانإلى منطقة (ناوزنك)، ومنطقة بشت ئآشان تبعد مسافة اثنى عشر ساعة سيراً على الأقداممن (ناوزنك)، تلك المنطقة التي كانت مكاناً لأول إذاعة للحزب، يقول النصير صباحالمندلاوي في مذكراته (أذكر أنا والرفيق كاظم الموسوي والنصير ناصر عواد كنا نسيرخلف "البغل" الذي يحمل الإذاعة لمراقبته والحفاظ عليه. لم نكن نعلم أنمجموعة من الرفاق والأنصار قد استطلعوا المكان الجديد –بشت ئآشان- وأن رأيهم بأنمثل هذا المكان غير صالح عسكرياً وسياسياً لأسباب متنوعة). المكان كانت تغطيهالثلوج في فصل الشتاء وتقطع المناطق والمنافذ الموجودة بحيث يسهل هجوم العدو علىالمكان ولم يستطع أحد انقاذ نفسه.
كان ناصر عواد ذلك الأنصاريالحريص على اسرار حزبه والمتعاون مع رفاقه الأنصار في منطقة (كوستة)، يتذكرهالأنصاري صباح المندلاوي قائلاً: (مداعبات الرفيق الشهيد "ابو سحر" ناصرعواد وأريحيته وتعليقاته المرحة تبدد الجفاف والقسوة، وتزرع الأُلفة والمودةوالمحبة في هذا المكان "كوستة". وهو كإداري تراه يجمع الملابس المتروكةمن قبل الرفاق فيغسلها جيداً، ويرتبها ويوحدها ثم يوزعها على من يحتاجها. هو كالأبالرؤوف على ابنائه. ما أكثر ما يسترجع تعليقات والدته في مواقف ومحطات؛ فيشيعشيئاً من الفرح وسط الأنصار. هو من أهل الديوانية.. أسمه الكامل ناصر عواد كرانمنخي، وأمهُ عزيزة ساجت، ولديه ثلاثة أخوة في حركة الأنصار {نصير، أقبال، نصيرة}،سافر إلى لبنان ومنها إلى كردستان.. ها هو الآن على الشريط الحدودي، تحيط بهالجبال والحافات الصخرية الحادة والغابات الكثيفة. قامة شيوعية شامخة ونموذج ثورييتحدى الصعاب. هذا النموذج الثوري استشهد في معارك بشت ئآشان في الثالث من آيار1083م، فحلّق عالياً في فضاءات الخلود).
ويؤكد القاضي زهير كاظم عبودأنهُ هو من كسب ناصر عواد إلى تنظيمات الحزب الشيوعي في مدينة الديوانية، كما يؤكدفي كتابه (أوراق من ذاكرة مدينة الديوانية) أن ناصر عواد استفاد (من تجربته تلكبأغناء شخصيته بالمعلومات الثقافية، وكان ميالاً للضحك والسخرية دون أن يخدش مشاعرأحد، وميالاً لحفظ الشعر الشعبي ويتلذذ بقراءة القصيدة، وكما يحلو له أن يسمعنامما يحفظ من قصائد، ويطلب مني باستمرار أن أقرأ قصيدة البراءة للشاعر الكبير مظفرالنواب، حتى أنه كتبها لغرض حفظها، كان ميالاً لمساعدة رفاقه بالرغم من فقر حاله،ويقترح أحياناً اقتراحات تنم عن كرمه وحسهُ الإنسان، كاقتراحه مشروع صندوق ماليداخل الخلية ودفع اشتراكات غيره من الرفاق الفقراء، أو إصراره على دفع ثمن الشايالذي نشربه في المقهى، وخلال تلك السنة أكملنا تنظيم جميع الشباب الذين يرتادونالمقهى، وكان الفضل كل الفضل يعود إلى ناصر عواد وإلى أحمد خضير).
ناكر الجميل انوشيروان مصطفى
يبدأ عناصر حزب الاتحاد الكردستاني بإعدادالعدّة للتصعد من أجواء التوتر على منطقة بشت ئآشان وبقيادة (الكوملة) وانوشيروانمصطفى إلى جانب الخط العريض من الحركة الاشتراكية، وتدعوهم لشن معارك وصدامات، ولعلرسالة انوشيروان وكتابه المعنون (الأصابع التي تكسر بعضها البعض) خير دليل علىذلك، وأهمية حسم المعارك بطريقة مباغتة لتوجيه ضربة للشيوعيين، متناسياً موقفهمالإيجابي يوم تم اعتقاله من قبل الحزب الاشتراكي الكردستاني عام 1981م، حيث تجولوابه في القرى والأرياف نكاية به ولأهانته، وكيف طلب الاتحاد الوطني الكردستاني منقيادة الحزب الشيوعي العراقي التوسط لدى الاشتراكي للحفاظ عليه في إحدى مقراتهحرصاً على حياته، وقد تم ذلك، لكنه انوشيروان استغل طيبة الشيوعيين، فما كان منهُإلا الهرب والتواري عن الأنظار عند خروجه لقضاء حاجة في الهواء الطلق دون مرافقةحارس لهُ. في كل هذه الأجواء الملبدة بالغيوم تستمر الكمائن والتصدعات والصراعات.
يذكر النصير صباح المندلاوي في مذكراتهقائلاً: (في السادس والعشرين من نيسان عام 1983م ليلاً يُنظّم الحزب الشيوعيالعراقي عرضاً عسكرياً للأنصار في شوارع أربيل، يشارك فيه أكثر من تسعين نصيراً،في جو من التحدي الصريح للسلطة الحاكمة، حيث تمكن انصار الحزب من الدخول إلى قاعاتمحاضرات الطلبة في جامعة صلاح الدين وعقد ندوة سياسية هدفها فضح ممارسات السلطةالدموية. في طريق العودة إلى "دشت أربيل" ثم إلى القواعد الخلفية يتعرضالانصار الشيوعيين إلى كمين نصبهُ اتباع الاتحاد الوطني الكردستاني، أسفر عن وقوعجرحى وضحايا، ويأتي هذا الحدث بعد الهدنة التي عقدت بين الاتحاد الوطني وحكومةبغداد، ليؤكد أن هذا العمل تم بمقابل تزويدهم بأحدث أنواع الأسلحة والمعدات،والدعم اللوجستي بنية استخدامها في الهجوم على مقرات الحزب الشيوعي العراقي في بشتئآشان لاحقاً).
العشاء الأخير
في قاعدة (ورته) ستواصل القتال ي بعد هجومعناصر أنوشيروان مصطفى على المقر، وتتطاير الأشلاء، العشرات من الأنصار يغادرونالموقع في طابور طويل من الوادي حتى السفح، ثم إلى الطريق الذي يفضي إلى قرية(بيانا) حيث موقع إذاعة الحزب الشيوعي العراقي. ويؤكد النصير المندلاوي أن (عقاربالساعة تشير إلى السادسة مساءً، يتناهى إلى مسامعنا قصف مدفعي من فصيل المدفعية في"بشت ئآشان" باتجاه المهاجمين لإثارة الرعب في صفوفهم، هذا إذا لم يكنهناك قتلى وجرحى. وفي هذه اللحظات وأمام أنظار الجميع يتم احراق الإذاعة، خشيةالسيطرة عليها... ينادي أحدهم.. أمامنا مسيرة طويلة خذوا شيئاً من الطعام قبل أنننطلق. ها هي وجبة العشاء –علبة سمك سردين- نتقاسمها أنا والشهيد الخالد ناصر عواد–أبو سحر- و"عبد الأئمة" أبو ظفر القادم من قاطع السليمانية والراغببالذهاب إلى بهدينان للقاء خطيبته.
أخبرني الرفيق ابو سحر: أنا سأذهب إلى المكتبالسياسي في بشت ئآشان. أحمل لهم رسالة من "ليوزه". قلت لهُ: نذهب سوية..أنا أيضاً كنت عازماً الذهاب إلى "ليوزه" الآن تغيرت الأمور، ولم يعدأمامي سوى العودة إلى فصيل الإعلام. رحت أبحث عن المستشار السياسي لفصيل بولي (أبوعلي)- حسام، وبعد جهد عثرت عليه وأخبرته طالما أنني لم أتجه إلى "ليوزه"،إذن سأعود إلى فصيل الإعلام في بشت ئآشان.
قال لي: لا أفضّل عودتك... فهناك أخبار عنتسلل الأعداء إلى الطريق الذي تسلكه. قلت لهُ: حسناً... سأبقى معكم. وهنا رحت أبحثعن الرفيق (أبو سحر) لأخبره بالمستجدات ولكن على ما يبدو وقبل أن يخيم الظلام غادرالمكان باتجاه بشت ئآشان، وحرصاُ منه على إيصال الرسالة التي يحملها إلى رفاقالمكتب السياسي.... هل وصل إلى بشت ئآشان؟! هل ألتقى برفاق المكتب السياسي؟ وأغلبالظن أن الرفاق قد غادروها منسحبين باتجاه جبل قنديل. هل صار فريسة لأحد الكمائنفي الطريق؟! في أي زاوية من بشت ئآشان قد استشهد؟! هذه الأسئلة ظلت بلا إجابات).
رحل النصير ابو سحر دون وداع حاملاً هم حزبوامانته، والرسالة التي حاول ايصالها إلى رفاقه في المكتب السياسي للحزب، إلا انهاكانت رسالة الشهادة دون أن يعلم بذلك. استشهد دفاعاً عن الفكر الذي يحمله، وقدرثاه أكثر من رفيق من رفاق الدرب، وانقل في هذا المقال رثاء رفيقه النصير (ابوقحطان)، وهي رسالة وفاء لرفيقه:
إلى ناصر عواد
(لقد قامرت بحياتك فخسرت، أما نحن ففزنابهزيمة أبدية، أنا مدين لكَ منذُ سنتين بهذه الكلمات التي لا تسر أحداً، ولم يكنصمتي إلا إمعاناً في هذا الانكسار المزمن، وإقراراً بطوفان من هزائم شائنة. لقدقتلت عند ذلك السفح الجبلي الذي أشرف ذات يوم على أخواخنا المسنودة إلى كتف الجبل.كُبلت يداك بسرعة إلى الخلف وأطلقوا النار عليك وعلى من كان برفقتك، وغادروا علىعجل ليخفوا ارتباكهم، وهم يصرخون بلغات صخرية.
كانت شمس آيار قد انحدرت منذُ قليل من شرفاتجبل قنديل، لتضيء الوادي الذي لم يزل في أغلبه يرقد تحت ملائة ضبابٌ كسير، حيثأشجار السنديان والحور تتنفس بهدوء وهي تنفض عن أغصانها الطرية نداوة الصباحالمغتال.
كان الوادي خالياً إلاّ من صراخ القتلة الذينحرصوا أن لا تأكل النيران كل أثرٍ جميل لنا، من كُتب ومسرحيات ولوحات وقصائديتيمة، ودواوين لشبان لا تعرف أسمائهم، ورسائل كُتب على عجل لأحباء في أماكننائية، وكلمات سريعة، وتحدثت عن وداع مداهم. أطعموا كل تلك الثقافة وتجربتهاالفريدة للنيران، ثم اقتسموا بعيد ذلك الأموال والأسلحة والمعدات والدواء والحقائبوثياب الأطفال، وسرقوا من قتلانا ساعاتهم وخواتم زواجهم.
لقد سقطت في ذلك اليوم عاصمة صغيرة أخرى منعواصم الفقراء، واستبيحت ببدائية العصور الحجرية، وقدم أسرانا قرابيناً لآلهةكراهيتهم.
كان الخيار المفروض أن نرحل عشية المجزرة؛تسلقنا بصمت مجروح ذلك الجبل الرهيب الذي يحتفظ بين صخوره وشقوقه ومسالكه ثلوجاًمنذ عصور التكوين، كنا نساءً ورجالاً من كل الأعمار، جرحى ومرضى وأطفالاً حديثيالولادة، كان أيضاً في صفوفنا العديد من المقاتلين الأشداء، يحرسون هذه الأقدامالمتعبة وهي تتقهقر إلى الأعلى بحزنٍ عميق؛ وخجل يُدمي القلب. كنا خيطاً بشرياًيمتد لمسافة طويلة يتعرج ويلتف، يختفي ويظهر حسب التضاريس، وكان الليل دامساًغامضاً منطفئ الكواكب. كان القتل الشديد وهدير مدافع الهاون والرشاشات الثقيلة قدأخلى دوره مع حلول الظلام).
الرسالة جداً طويلة واختمها بما كتبه الرفيق(أبو قحطان) بما يلي: (ها أني في الآخر أفي بوعدي إليك. وربما هو وفاء إلىالاعتراف أقرب. فرغم كونك قد غادرت إلى كنف الموت إلا أنني كابدت كي أجد شيئاًمناسباً من شأنه أن لا يقض مضجعك في زورق موتك، وإن لا تقشعر منه بالنهاية عظامك،ولهذا ابتعدت وساومت ولم أشأ أن أخبرك عن كيف ارتضى البعض من أن يعمل أجيراً عندقاتليك، بعناوين كبيرة كمستشارين سياسيين وصحفيين يحسنون صرف الحقائق وتبييضالوجود، وقد طرحوا رداء خجلهم بعيداً وهم يختبؤون خلف ظله الطويل، وينعمون بعطاءهالوفير.. ولم أشأ أن أخبرك كيف يهضم البعض منا حق البعض الآخر، وكيف يسطون علىشرفهم ونبلهم وجرحهم، ويلبسونه لمن يريدون بروح من ثلج وضمير منطفئ... هل فزنابشيء!!!!!
المصادر:
1- زهير كاظم عبود، أوراق من ذاكرة مدينةالديوانية.
2- صباح المندلاوي، تعال معي إلى قنديل.
نبيل عبد الأمير الربيعي
التعليقات