قصة "موز" للكاتب تورال جعفروف
الكاتب / تورال جعفروف
(1984م)
كاتب أذربيجاني وصحفي. تخرج من كلية باكو للاقتصاد عام 2001م. تخرج من كلية العلوم الاجتماعية وعلم النفس بجامعة باكو الحكومية عام 2005م، حصل على درجة الماجستير في الفلسفة الاجتماعية بجامعة باكو الحكومية. صدرت مجموعة شعرية "حب إلكتروني" عام 2006م، ورواية "رواية مصطفى" عام 2011م، نشرت مجموعة مقالات بعنوان "التقبيل خوفا من الشرطة"، وعام 2014م صدرت مجموعة قصصية "تسع قصص".
عمل رئيس تحرير المجلة الإلكترونية "كوليس.أذ" (Kulis.az).
يعمل مدرسا في قسم الفلسفة والعلوم الاجتماعية بجامعة الألسن الأذربيجانية.
قصة "موز"
للكاتب/تورال جعفروف
رأيتها عندما كنت أخرج من الدكان. كانت تنظر إليّ وتبتسم. كانت بيننا بضع خطوات فقط. وهي التي اجتازت معظم هذه المسافة متقدمة نحوي. توقفنا وجها لوجه على مسافة خطوتين أو أكثر قليلا. كانت ترتدي ملابس رثة، تبين فقرها واضحا جليا. وكانت في الأربعين من عمرها تقريبا. وقفتُ متحيرا ومندهشا بعض الشيء. أما هي فما زالت تبتسم، وقد بدا الحزن في ابتسامها، تشبه ابتسامة ولد مريض يخفي وجعه عن أمه. وابتسمتُ أيضا ابتسامة صارمة، لأن ابتسامها كان لا يطلب الشفقة، بل كانت من أجل نسيان الماضي. مجرد ابتسامة إنسان يريد أن يبتسم فقط، أكثر الرغبات براءة في الدنيا... لا غير!
توقفنا وجها لوجه. حتى لو لم أكن أعلم أن المنظر كان رومانسيا جدا، كنت قد تصورت أن الرياح القوية تجعل شعرها يلمس وجهي. لكن في القرن الحادي والعشرين وصف الأشياء بالظواهر الطبيعية لم يعد أمرا رائجا. وكرجل كان عليّ أن أبادر بفتح باب الحوار بيننا.
- أرجو المعذرة، يبدو لي أننا التقينا من قبلُ؟
- "لا"، قالت هذه الكلمة بطريقة لا يستطيع حتى أقرب الأصدقاء التحدث بمثل هذا الإخلاص. الناس إما معاريف، وإما يحاولون التذكر متى وأين تعرفوا ببعضهم على بعض. لا يمكن للحوار الذي بدأ بكلمة "لسنا معاريف" أن يستمر طويلا. قد يبدو غريبا، ولكنه استمر.
- وما العمل؟
- لست أدري.
- إذا نفترق.
- لربما التقينا قبل ذلك؟
- لا، لا أعرف بالضبط.
أنهيت الحوار معها ودخلت المقهى القريب لأتناول كأسا من الشاي الساخن. بعد تناول الشاي نظرت إلى ساعتي. إن الوقت قد تأخر، كان يجب عليّ الذهاب إلى البيت. خرجت من المقهى بعد أن تركت مبلغا يعادل سعر الشاي على المائدة. ترامى صوت ضوضاء وضجيج إلى المقهى من الدكان المقابل. مسكوا فيه على ولد بتهمة السرقة، والتف عليه بعض الناس من العاملون. كان الولد يرفض كل الاتهامات بالرغم من منعهم إياه عن الكلام. وكان من بينهم شخص واحد فقط، يحاول إثبات شيء ما لأولئك الذين تجمعوا حول الولد ماسكا بذراعه. نعم، هذا الشخص كانت تلك المرأة. وأخيرا خلوا سبيله، والمرأة تقدمت إليّ بخطوات سريعة وهي ما زلت تبتسم. وهذه المرة أيضا بدأت الحوار بسؤال:
- ما اسمك؟
- ما لك ولاسمي؟
- وكيف أدعوك؟
- قل ما تريد؟
- ما رأيك بعائشة؟ جيد؟
- نعم، جيد...
قالت ونظرت إلى المقهى الذي تناولتُ الشاي للتو فيه.
هيا نشرب الشاي؟ ما رأيك؟
- "بالطبع"، قالت دون تردد، وتبعتني إلى المقهى. كأن الجرسون الذي فتح لنا الباب عند الدخول بدا لها غريبا بعض الشيء. على ما يبدو لم يفتح أحد لها الباب حتى اليوم. جلسنا على المائدة، لم تنظر إلى قائمة طعام موجودة على المائدة حتى بطرف عينها. لذلك كان عليّ أن أسألها:
- هل ترغبين في تناول العشاء؟
- لا، أرغب في شرب الشاي.
- هل أطلب فنجانا كبيرا؟
- لا فرق بالنسبة لي، فليكن حسب رغبتك.
طلبتُ فنجانين من الشاي من الجرسون الذي كان واقفا عند مائدتنا. أطالت النظر فيّ حتى أتى الجرسون بفنجانين من الشاي. بمجرد وضعهما على المائدة، أخذت الفنجان ورشفت رشفة من الشاي ثم قالت:
- هل تعرف أن هناك دكانَ بقال، يبيعون الفواكه بسعر رخيص جدا؟
- أين؟
- قريب من هنا، تمشي إلى الأمام قليلا وتلف إلى اليسار، سوف أدلّك عليه...
- إن شاء الله.
- أشتري الفواكه من هذا الدكان دائما.
- وأين تسكنين؟
- قرب محطة مترو "غارا غاراييف"( ).
- تشترين الفواكه من هنا وتحملينها كل هذا الطريق؟
- نعم، لأن سعرها هنا رخيص.
لم أجد كلمة أو حتى سؤالا لتسألها وأواصل الحديث معها. نعم، أذكر أنني يوما من الأيام كنت سكران قليلا، حينئذ ألقيت لعامل البار محاضرة مفصلة حول تطوير زراعة القطن في البلاد. ولا علاقة لمشاهدتي لحقول القطن فقط على شاشة التلفزيون في برنامج "تربة 97" على قناة "AzTV" بمحاضرتي أبدا. وفيما بعد، اهتمت الدولة بهذا المجال، لكن النتيجة لم تكن مرجوة. ومنذ ذلك الوقت لم أهتم بأمور تتعلق بالزراعة. ولا يهمني أبدا ثمن الفواكه والخضروات، لأنني كنت أشتري اثنتين من كل فاكهة، أو على الأكثر ثلاث.
كانت مستغرقة في التفكير، كأنها تهمس: "اشترت أمي ذات يوم اثنين من الموز، وأكلنا بعد أن قطّعناه إلى تسع قطع".
أذكر عندما كنت أشتري الفواكه بالكيلو، قرأت كتابا بعنوان "الحزن في قشر الموز". أخذني التفكير إلى هذا الكتاب، بيد أن هذه الحال لم تستمر طويلا، استفقت من شرودي وسألتُها:
- لماذا كنتم تقطعون الموز إلى تسع قطع؟
- كنا سبعة أطفال.
- هكذا إذا.
- أكل كل واحد منا قطعة من هذا الموز. وتوفيت أمي بعد بضعة أيام.
- رحمها الله.
- ثم تزوج والدي.
- أين تسكنين الآن؟
- رجعتُ إلى بيت والدي.
- رجعتِ؟
سكتت، ولأول مرة لاحظتُ الحزن في عينيها. ثم تبسمت في وجهي، كأنها خافت من أن يتسرب حزنها إليّ. بدأت في البحث عن كلمة لأواصل الحديث معها، وخطر ببالي هذا السؤال:
- لتفترض، أنك وجدت مصباح علاء الدين السحري، وأخرجت الجني منه، ماذا ستطلبين منه؟
- ما قصدك بالجني؟
- ألم تسمعي عن الجني الذي داخل المصباح؟
- آه، كسمكة ذهبية؟
- نعم، هذا ما أقصد.
- سأطلب منها أن تعيد لي أمي وأخواتي، وأن يكون لي بيت، نعيش كلنا فيه سوية. ثم... و...
أضافت بتردد وخجل:
- تمنيت أن أصبح مغنية. كنت أدرس في مدرسة موسيقى رقم 42، في الصف الذي يدّرس فيه الأستاذ "كاظم". حتى استضافنا مرة برنامج على قناة " AzTV".
- وماذا بعد؟
- أشاحت بعينيها ونظرت إلى بعيد بنظرة غاضبة تشبه بقصة قصيرة من حياتها. ما سألت عن جانب من جوانب حياتها إلا وقد وجدت المرأة المسكينة تتألم. ورغم ذلك لم تستسلم وكانت تكافح، ولذا واصلت حديثها بحماس بالغ:
- هل تعلم لماذا أريد بيتا؟ لأن والدي تزوج مرة ثالثة. وأخواتي أيضا تزوجن، وأما إخوتي فسافروا إلى روسيا. لذلك أريد بيتا، حتى إذا رجعت أمي وأخواتي يكون لنا بيت لنسكن فيه. هذا كل ما أتمنى، ولا يهمني أصبحت مغنية أم لا.
- ولم لا يسمح والدك أن تعيش معه؟
كنت عنده يوم أمس، قال لي تعالي، وسألني لماذا لا أسكن معهم، وقال إنه سيقوم بتسجيل اسمي في المنزل. علاوة على ذلك، ذهبتُ إلى مصلحة الجوازات. تعرفت هناك بشخص طيب. كان يستمع إلى الموسيقى عندما دخلتُ مكتبه. كتب لي على قطعة ورق جميع الأوراق المطلوبة، ها هي في جيبي.
قالت هذه الكلمة وأدخلت يدها في جيبها، فأخرجت قطعة ورق ومدت إليّ، لمحتُ فيها كلمة "ثلاثة شهود".
- ثلاثة شهود؟
- نعم، يجب أن يأتي ثلاثة أشخاص من الجيران إلى المصلحة ويشهدون بأنني بالفعل كنت أسكن في ذلك البيت.
- فهمتُ.
- اتفقت معهم، ووعدوا لي بالمجيء.
- ممتاز.
ألقيت النظرة إلى الساعة، وقد تأخر الوقت، كان مترو على وشك الإغلاق. "لنذهب"، قلتُ لها، قالت، "نذهب"، ونهضت بسرعة ولبست سترتها قبل أن يقوم من مكاني. توادعنا أمام المقهى وتفارقنا. إلا أنها لم تتجه نحو مترو، فسألتها إلى أين هي ذاهبة، أجابت: "عليّ أن أشتري بعض الفواكه الطازجة". قلت لها: "إذا نذهب سوية، طريقي أيضا من تلك الناحية". انطلقنا نمشي معا، ودخلنا دكان بقال معا، عدّت بيدها تسعة أصابع من الموز، وخرجنا من المحل بعد أن دفعت ثمنها. ودعتُ عائشة أمام دكان بقال، وتفارقنا كمعارف قدماء.
ترجمها من الأصل إلى اللغة العربية فريد صابر جمالوف
فريد صابر جمالوف
التعليقات