هل نحتفل؟!َ
... للمرة العاشرة كان السؤال يتقوقع بين فكري وقلبي، ويمد شرايينه في كل أوردتي، ويضجّ بين زفراتي الحائرة.
... وقفت أرصد مشيتها المتثاقلة وهي تتقدم صوب الحديقة، تدسّ قدميها الصغيرتين المتعبتين في حذائه الضخم المكلل ببقايا التراب، وتمدّ أصابعها التي توّجها عناء السنين بالتواءات وانحناءات، فتحوّلت رشاقتها إلى صلابة، ونعومتها إلى حنانٍ عجيب، فتفتح صنبور المياه وتشدّ الأنبوب الثقيل، ... وتبدأ بالري!
لم ألتفت إلى وجوب الإسراع لمساعدتها إلا بعدما كانت المياه الجارية قد بدأت تتدفق نحو الجذور الولهى الظامئة، ... تبسّمتْ لحركتي التي حاولتُ بها تدارك تقصيري، وهتفتْ:
_ لا عليك يا حبيبتي هو عملٌ .... أحبه!
تنهدتْ بحرقة وهي تزفر الهاء الأخيرة ملء جوارحها، فنظرتُ في وجهها المشرق الذي لم تستطع الأيام الأخيرة أن تذبله وتطفئ تألقه، ... ترى إلى من تعود تلك الهاء، إلى العمل، أم إليه؟!
كل حركتها المتسللة بين أذرع الأشجار المصطفّة حولها كانت تؤكّد أنها تعود إليه!
هي تسقي ظمأ البنيّات اللّواتي غرستهنّ يداه، وربّتهن حتى غدَون يافعاتٍ مثقلاتٍ بالجنى، هي تستأنف معهن مسيرة الحياة التي بدأها، وتمدّهن الآن بالمحبة والحياة التي كان يطعّم بها طفولتهن ويشذّب بها أغصانهن الطائشة، حتى إذا بلغن مبلغ الشباب وقفن يحرسنها بأجفانهن الدامعة، ويبحثن بجذورهن أعماق التربة الساكنة التي اشتاقت لوقع خطاه، عساهن يجدنه في مكانِ ما هناك، ينتظرهن ليرددن الجميل!
" هل نحتفل؟!"
... أعدت السؤال المرتدّ نحو أعماقي وأنا أراقب أجفانها الذابلة، ... واتّكأت على إفريز الشرفة وأنا أحاولتشخيص المنظر.
الأرض تزهو بربيعها المقبل، والورد تطلّ براعمه الخجلى من أكمامها الناشبة ارتفاعاً صوب الشمس.
شجرات الليمون التي تحمل موسمين، مثقلة بالثمر والزهر معاً، ... عبيرها الفوّاح يحدّثني بذكريات العصاري، حينما كانا يجلسان معاً في الباحة الأمامية يرقبان قدومي حتى قبيل الغروب أحياناً، وكتابه الأثير يتقلّب ساجياً بين أنامله الصامتة، وعيناه الناطقتان بآياته البينات، ... سُبحته لا تزال تبسمل وتحوقل في ذلك الركن الوادع، يجاوبها حفيف أشجاره وزقزقات أطياره التي تنقد الفتات المنثور على حافة نافذته، وأريج الياسمينة المتسلقة هناك!
أما مصلاه، ... فقد افترش قلبي مذ رحل!
"هل نحتفل؟!"
كان الجواب يتململ مغالباً مخاضاً عسيراً، ... كل أبواب الزمن ومصاريع الحنين تفتّحت فجأة، وتنشّقتُ رائحة التراب المرويّ وأنا أتأملها أكثر، فإذا هي تأخذ نفساً عميقاً وتسرح بنظرة ملهوفة في البعيد.
" أقفلي الصنبور يا ابنتي!"
... كان صوتها المتغلغل في أعطاف المكان كافياً ليعلن لحظة الولادة، ... سارعتُ ألبّي النداء والصدى يضجّ في أعماقي متداخلاً مع نبراتٍ لم تذوَ بعد.
وجدتُني أقف أمامها، أتأمل قدميها وهي تقف لحظةً قبل أن تخلع حذاءه، تلاقت عيوننا فوق حبيبات التراب المتناثرة فوقه وحوله.
رفعتُ ناظريّ إليها، صرختْ فيّ بسمةٌ مشعشعة، ووجهٌ يتضوّع دفئاً، وعينان تزدادان هدوءاً وعمقاً.
توقفتُ عند شفتيها اللتين كانتا تتمتمان بنفس الآيات التي طالما ردّدتها شفتاه!
عانقتني بلهفة، فوقعتُ على يدها وأنا أطبع قبلةً طويلة، وهتفتْ دموعي:
"كل عامٍ وأنت أبٌ وأم!"
رجاء بكريّة
التعليقات