حرير لقاء
أسند مرفقيه على الحاجز الحديدي الذي يفصل المسافرين القادمين عن المستقبلين وتقدم صوبها بعينين مبتسمتين فاحتشد المكان بضوع محبة وزنبق.
شدّما تشتاق اليه.. وفي مسعى مأمول لتفادي لظى الشوق وللحفاظ على توازن وطمأنينة، تشغل ذهنها بأشياء تبعدها تماماً عن اضطرام حال يسودها، كأن تعيد ترتيب أثاث الدار أو تدهن جدار بلون بهيج، ومن حين لآخر، تراودها فكرة اقتناء قطة، ثمة أمور أخرى يمكن عملها، الاعتناء بأصص الأزهار مثلاً، بيد أنها تقبع في مكانها ولا تحسن سوى التأمل.. ما انفك الشوق يطاردها، هاهي الآن تصبو اليه ثانية وعاشرة ومائـ.. شوقاً لاذعاً جائلاً وماثلاً في أغوار النفس، ممتداً من لحظ التلاقي حتى حدود الكون.
يدبّ الفرح فيها غداة لقائهما الأول، تغمر عيناها وجهه، تكتظ بميس ريحان وشهقات نور وأنهار عسل، يثب الى كفها شعاع من كفه حين يلامس كفها فينطلق طائر المسرّة من عشه.. له يد طيعة دافئة، مثل نبرات صوته.. هل هناك شيء أنعمَ وأبهى من لمسة يده وضغطه راحة يدها بابهامه، ومن وقت يجد فيه حرير الحب دربه الى النفس؟ ليس معقولاً أن يكون هناك معبر سالك ورائق للبهجة والنشوة والسحر غير ذلك.. من ذا يستطيع أن يوقف الزمن عند لحظة امتزاج كفّين، ويستعيد ذراعيْ غابة يلتف اخضرارها حول عاشقين؟
لَكُم أن تتخيلوا توقدَ أشياء كثيرة ونهوضها من رقاد ورماد، واختلاط حواس وتشابك وظائفها، في البصر تسمع ألواناً، وفي السمع تبصر ألحاناً، وتحلّ مسرّات مؤنسة تبعث على دهشة وخفّة، مثل سكب صاف ينجئ من ظمأ في قيظ، فتروح تداعب نجوماً وتراقص غيوماً، لتعصر منها ضوءًا يضحك، ومطراً يجهل البكاء، ترقب روحها تذهب، الى ثمة كوكب و أحلام أعذب، وبدور ومرسى لمركب، ليس على أرضه فرقة ونفور، بل محبة ونوال لمأرب.. هو شعور رحيب لا يمكن حصره، أوسع من الفضاء.. تجده في لحن يصفر بعذوبة: ترالللّا، حينما لمحتُ العيون البهية، وتدفق الحياة في الروح النقية، خلْتُ أني أحبك، ترالّللا.. وحينما دنوتُ من سماء قلبك، وتركتُ كفي في كفك، عرفت أني أحبك، تارالّللا، وحين اشتقت لنسائمك ودفئك وحنانك، أيقنتُ أني أحبك، أحبك، أحبك.. يوم أنشد البحر أنغام الهيام وأكتظت الأمواج ضاحكة لتعزف ألحان الحب، فباركته صخور الشواطئ وصغار أوراق الشجر وقدّاح أشجار الليمون، وشمس رؤوف سخت بضوئها على بقعة المحبة، وعصافير تسكعت فوق رؤوسنا وتأخرتْ عن أعشاشها، وبيوت صامتة أنصتت بجلال الى خطواتنا ولم تزعجنا بصحوها، وعربدة طرقات جرت معنا وتعقبتنا بفضول مرح، وذهول زمن باغتناه، جلس بوداعة ينصت لأحاديثنا وكفّ عن اللحاق بأجزائه.
يا طيب أوقات كانت لنا معاً !.. يومها همست لك: هات يديك ألمسها ثانية، دعني أريح رأسي على كتفك، هبني تلاق عنفوان سائغ ومكتنز لزهر القلب والربيع، خذ من نسيج هيامي وأيامي خيوطاً ترفو بها مسافات بيننا، اقترفْ القرب والوصال، حتى لو كان لك فيهما عناء وفناء، فذلك أرأف من وجع النوى ووجع الشوق.
بلا هوادة، تظل روحها تفيء بظل ذكرى اللقاء الأول ولا يتعربش ياسمينها الاّعلى سياج أيامه وذكرياته.. فإن لم تجمعهما حياة عن كثب، ستجمعهما أحلام وأسفار.. ومن أجل آمال قادمة، تظلّ تقشّر الليل وتقطّعه شرائح شرائح، عسى أن ينبلج فجر الأشواق عن شمس لقاء فاتنة باهرة.
يقول لها بصوت واهن:
- هل تذكرين أول لقاء لنا أيتها الحبيبة؟
تمسك بيده التي مسح بها شعرها الابيض، تقبّلها وتهمس:
- كيف يمكنني نسيان ذلك اليوم البعيد القريب؟ يوم أسندت مرفقيك على الحاجز الحديدي الذي يفصل المسافرين القادمين عن المستقبلين وتقدمت صوبي بعينين مبتسمتين فاحتشد المكان بضوع محبة وزنبق، وبعد ذلك العمر، مازال يفوح بهما.
فيحاء السامرائي
التعليقات
الاسم: |
علي |
التاريخ: |
2020-09-15 05:22:53 |
|
ومازال يفوح بهما كلام جميل يفوح بنكة الفيحاء |
|