كأَنَّني بلا مَلائِكَة
في الواقع أنا لا أعرفني ، كنتُ قد رَأَيْتَ صُورَةً مرميةً على الأرِيْكَة وقلتُ : هذا أنا . ومثل مَن يَقْفِزُ مِن يومٍ إلى آخر، هكذا قَفزتُ من قبرٍ إلى آخر ومن جسدٍ إلى آخر ومن نهرٍ إلى آخر .
وحتى وَقْت قَرِيب اعتقدتُ أنني الشَّخْصُ الْخَامِسَ الذي ضاعَ بين أشْكال لا نهائية . اعتقدتُ أيضاً أنني الملاك الذي نزل مع آدَمَ وحواء إلى الشارع مِنْ أَجْلِ أن يَدُوْس على الأزهار ثم يقول : فمي يُؤْلِمُني ويبقى يُرَدِّدُ طوال اليوم : فمي يُؤْلِمُني . فمي يُؤْلِمُني . فمي يُؤْلِمُني .
وكنت أيضاً الشَّخْصُ الذي لم يكن في البِدايَةِ ولم يكن في النِّهاية.
و كُنْتُ أيضاً إلى جِوَار القبر أشير إلى إِصْبَعِ المَيْت التي كانت تشير إلى فكرة الحياة .
وقد اعتقدتُ حتَّى وَقْتٍ قَرِيبٍ أن الجذور هي إعادة اختراع العالم ، لذلك كنتُ فيما مضى أتدربُ على الأَفْعَى، على عدم الوجود في ذات الجسد . لكنني اكتشفتُ مؤخراً أنني ما أن انْحنَي حتَّى يَنْحَني معي نهرٌ وعندما الْتَفَتُ يَلْتَفّ معي أيضاً .
قُلْتُ لأَبي الذي ضَيَّعْتَه في طِّينٍ بعيدٍ : يا أبي ... إنهم يَقفون في أَوَّل الحياة .. يَقْضَمون تفاحة بالنيابة عني ، ثم يَدَّعون أنني آدم .
يا أبي .. أيُّها البعيد ... كانوا كثيرون ولا يمكنني عدّهم .
يا أبي حتَّى أنني أكادُ أبكي من فَرْط الوَسْوَاسِ الذي في صورتي وأنا في الأَرْبَعِين.
يا أبي حتَّى أنني أكاد أنْهَارُ مثل كُرْسيٍّ بثلاثة اقدام .
يا أبي حتَّى أنني أَكادُ أن أرسم دائرَة على الْجِدَارِ وأقُولُ: هذه فكرة مثقوبة مثل بئر، وأنا لا أعرفها ولكنها تتسول وَجْهِي .
يا أبي لو أنك فقط تقف بين البداية والنهاية ، وتراقب ما يحدث ، لو أنك تستمر في هذا الوقوف الطويل بين اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وأن لا تضجر مثل فلاح ولا تتذمر مثل شُّرَطيّ ولا تنكسر مثل بَيْضَة ولا تشرح مثل فيلسوف لو أنك تقول : إنني لم ارْمِ الحجر الذي شَجَّ رأس قَبْركَ ولم أنس حَيَاتِك في الخِزَانَة ـ خِزَانَةُ الشَّاعِر ـ ولم أهلْ التُّرَاب على جثة الطَلّسم المدفون تحت جلدك.
الحَيَاةُ كانَتْ بارِدَة ولا تتنفس على طِينِ وَثَنٍ قَدِيمٍ ولا تجلد صمتها .
كنتُ وحيداً وكان قبري الذي سقط من حقيبتي في الوادي البعيد يرفس ويكاد ينهض من مَكانِهِ ويتبعني مثل كلب .
لو أنك تخرج من هذه العُلْبة وتدخل معي في عُلْبَةٍ أخرى ونتَمَدَّدُ أنا وأنت مثل سمكٍ مجففٍ ثم ندّعي أننا معلبات فاسدة؟
لو أنك تخرج من هذه اللُّعْبة وتدخل معي في لعْبةٍ اخرى ونركض أنا وأنت إلى الأيام التي في الطرف الآخر من النهر ؟
لو أخرج من شبكة الصياد ؟
لو تخرج من الشَّبَكَةِ و تَسْبَحُ إلى ما لانهاية ، ثم تَنْظُر مثلي إلى النِّسْوَةِ وهنّ يَخْرُجْنَ من المطابخ ويتقاتلن على المرآة، يتشبعن بِرائِحَةِ السَّمَك وفي آخر الحياة يَذهبنَّ إلى الأسرّة و أيْديهِنَّ خالية من الأمل ومثل عمياوات يُكسرنَّ اغصاناً يابسة في أَحْلامِهُنَّ ثم يمسحن الجدار ، يَمسحن الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ، عن الطاولة .
لو أنك تُراقِبُ النِّسْوَةِ يَأْتِينَ و يَذْهَبنَ مثل نساء مايكل أنجلو ، وفي آخر الليل يتَحَدّثن عن الفلسفة المَرْبُوطِة على السرير مع الحيامن التي فقدت أبوتها وبحُزْنٍ يَتذكرنّ الثدي الذي يَتأرجح بَيْنَ الهواء والقميص مثل بندول. وبإسهاب يشرحن ضجرهن من الطبيخ .
أيها البندول .. يا أبي .. أيها المتأرجح بين الجسد والقبر .. بين فم مفتوح مثل طاسة وقبر مغلق مثل باب .. هنا أنا مع العناصر نناديك .. نناديك ولا تسمعنا .. لا تسمع صُراخنا بعد الولادة ولا قبل الولادة . فلماذا تتأرجح مثل قطة مشنوقة على أسلاك الكهرباء ؟.
توابيت في الغرف . على الأسرّة . على السلالم وفي الممرات أيضاً والنسوة يَكشِفنَ العَمَى عن أثدائهن بينما البُطون منتفخة مثل هجرة معاكسة للبط .
لو أنك تَنظُرُ ولو لمرّة واحدة إلى قبري وتبكي . تبكي بمرارة من أجل الأزهار التي أدوسها كلَّما تَحَرَّكَتُ أو حتى كلَّما هَمَمْت بالحَرَكَةِ . تبكي بصَوْتٍ يصمّ الأذان مثل من يغني في وادٍ بعيد ،الوادي الذي سقطتُ من حقيبتك إلى إعماقه ؟
يا أبي .. قلتُ لك هذه صُورَتي مُمَزَّقة ومَرْمِيَّة إلى جوار حكاية طويلة مثل سن زائد ، ولو أنزلتها علَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مثل خَشَبةٍ في بيت قديم ..
أعرفُ إِنَّني في الصُّورة لَسْتُ أَكْثَرُ من أفعى ماكرة ، و إِنَّني لا أتعلم طريقة أخرى لحفر الأيام التي تتسوس في فم الآخرين، وحقيقة أنا لا أجد طريقة أخرى لكي أستمر في هذه اللُّعْبة كما لو إِنَّني صياد في غابة أو متسول يدفعه الآخرين ويسقط من حافة يوم إلى يوم آخر أكثر ضجراً وأكثر كثافة ..
لماذا أقف في عطلة المطر وحزيناً أنظر إلى الأيام تعبر كنهاية جملة طويلة ؟
يا أبي كنت أتمنى لو أنني شجرة مثلاً أو ماءٌ أو حتى فراغٌ يفصل بين قميص وآخر.
يا أبي تعبتْ يدي ... أُرِيْدُ نبياً لأُمْلي عليه
يا أبي لم أعد أصل إلى أي مكان ... أريدُ ساعةً لأدلّها على الوقت
يا أبي الكلُّ متكدسٌ في كلماتك التي لم تقلها بعد ، وأنا بلا أَحَد .
يا أبي أين الصَّيْف والنهر الذين وعدتني بهما ؟
يا أبي أقول لك أكاد أبكي كلما عبرت الجسر الذي يربط كلمة بأخرى .
يا أبي هل تسمعني من الجهة الاخرى من العالم كما أسمع أنا أنينك الذي يأتي من معدة تمثال؟
ما هذا الوَسْواس الذي زرعته في صورتي وذهبت ؟ ذهبت كمن يضعف كلما توغل أكثر داخل النفق .
يا أبي ثم أنني لا أؤمن بهذه اللغات التي تحترق في لساني ، بدليل إنني كلما دخلتُ كهفاً ، سمعتُ من يقول لي : أقرأ .. أقرأ ... أقرأ
وكنت دائماً اقول له : ما أنا بقارئ
وهكذا .. وبدل أن أدخل المدرسة ، دخلتُ على رؤوس اصابعي إلى عامي الأربعين ساحلاً خلفي مثل كيس من الكلمات أربعة اطفال وامُّهُم . وهكذا كان علي دائماً أنّ ابحث في الصحراء من أجل أن أجد البدو والعنكبوت وعش الحمامة أو في أحيان أخرى أجلس على حجر وأفكر كيف يمكن لي أن أخيط وجهي في الصورة بحيث يستطيع أن يلتفت إلى نهار آخر ولا يكتشف الرجل الذي سقط الخاتم من إصبعه في البئر ثم يقول أنا من كان ـ طوال اليوم ـ يمشي ويرتطم بنفسه وبالأيام وبالجدار ، قد يهرب مني في بعض الأحيان حجراً أو فماً او طيراً ، ولكنني عادة لا اكترث لكلّ ذلك ، وكنت دائماً أسير إلى ما لا نهاية .
ربما أقول إن الصورة التي ترونها هي أنا ولكني لا يمكن أن اكون ذلك الشخص الذي يغوص في الأريكة والذي يعد قمصانه واحداً واحداً كما لو أنه يعد أخوته الذين سقطوا منه في البئر ، حتى زوجتي كانت دائماً تقول وهي تخيط طفلاً آخر : أيامك طويلة .... طويلة جداً مثل إصبع يشير إلى الضجر وهي معقوفة من الجهة الأخرى من العالم مثل خشبة قديمة مثبتة على الجدار .
أعرف أن المشكلة ليست في الصورة ولا بوجهي عندما أحدق في المرآة ولا أرى أحداً ، ولكن في طريقتي في حفر هذه الصحراء التي في كتاب الساحر ، أو ربما في رغبتي في تغيير أحداث التاريخ ، رغم أنني عادة ما أسير إلى الجهة الأخرى من المعنى كما لو أنني شارلي شابلن أو هاملت وهو يسير إلى القبر .
كأنني بلا ملائكة بلا أبواب تفتح وبلا أبواب تغلق ، كأني لا أجد ثعلب الوقت في غابة الشاعر ولا أجد الببغاء في غرفة الفلاسفة . يا إِلهُ النَّرْد أَرْمني أتساقط عليك أرقاماً وكلمات
يَا أَيُّهَا اللاَّهِي عني بالنرد ، ترميه على الطاولة على أمل العثور عليّ ...
يَا أَيُّهَا اللاَّهِي عني بزراعة بشر آخرين يقفون على الحيطان ويرمون على أياميّ وساوسهم ويضحكون
يَا أَيُّهَا اللاَّهِي عني بإِنَاث يخيطنّ على السرير أطفالاً وكلمات و خلايا ، ثم يقلن إننا بلا خيوط تربطنا إلى النهر ، ومشدات اثدائنا تترمل تحت السرير.
يَا أَيُّهَا اللاَّهِي عني بطبيعة تنسكب من يديّ كلما هممت بكتابة أسئلة عن الحياة والموت .
يا أَيّها اللاّهي عني ، لماذا أمشيته على الماء وتركتني أغرق مثل سمكة ؟
يَا أَيُّهَا اللاَّهِي عني . أنا أفيض ، فمن كثرتِي يَتَساقَطُ بعضي على بعضٍ
. أعنّيّ على التاريخ الطويل .
يا إِلَهِي .. إِنَّكَ ـ كُلَّ يَوْمٍ وأنت في طَرِيقكَ إلى تماثيلي ـ تقع من علوٍ شاهقٍ وتنكسر روحك مثل قدحٍ أفلتْ من يد النادل ... كُلُّ يَوْمٍ تنزل إلى النهر، تنزل مثل خشبة ، تنزل مثل روح لا تعرف الطريق إلى الجسد ، تنزل وتنسى كلَ الألم الذي يشتعل في ذاكرتي ..كُلُّ يَوْمٍ لك حكاية مع الجيران ، تسرق دجاجتهم تسرق خبزهم تسرق صورهم وتقول هذه صورتك مرمية على الاريكة .
يا إِلَهِي أنا في حوض السمك ،أنا سمكة ميتة ومن عيوني الزجاجية أبتسم للحياة التي لم أعشها بعد ، لتكن الحياة خدعة كبيرة ،ليكن الموت خدعة كبيرة ،لنرمه من أعلى الجسر ، لنرم النرد مثلك ونخلق بشراً آخرين غيرنا يضاجعون زوجاتهم بملل .
يا إِلَهِي أين حروفك التي وعدتني بها ؟
أين مقبرة الخلايا التي قلت إنها في نهاية المدينة ؟
أين مشطك الذي تسرح فيه النهار على كتفي مثل صعلوك ؟
هكذا يبدأ العالم .. هكذا يبدأ العالم ..
الكلّ يصرخ : يا أبي ... أين صورتي ؟
...............
مقطع من نص طويل
سليمان جوني
التعليقات